من بورصة.. رسالة إلى صديقي

بقلم: د. محمد أمين

صديقي العزيز يا من جمعتنا الأفكار وفرقت بيننا الأماكن، دعني أحدثك عن 5 سنوات مضت أتجول في ربوع هذا البلد الكبير على خُطى مَسلمة وأبي أيوب على دروب الأجداد الفاتحين.. من حماة قدمت مدينة العاصي النواعير والمجد العريق ماشياً على صراط التاريخ مدفوعًا بالإغراء لمدينة سمعت و قرأت عنها الكثير.


بورصة.. أدخلها من الشرق مثلما تمنيت يستوقفني (دُعا تشنار) لأتذكر ذلك المشهد المهيب الشيخ الولي حميد (صمونجوبابا) وهو يودع بورصة الخضراء بدعاءه المبارك، أراه يخرج محزونا بعد انكشاف السر .. سره الكامن في فرنه العجيب الذي يُخرج صموناً مباركاً معجوناً بالعشق الالهي مخبوزاً بوهج الايمان المتغلغل في أعماق الروح.


هذه المدينة التي يترآى أمامي كيفما نظرت مشهد الجبل الأخضر  يبتزني فأصعد سفحه مشحوناً بالفضول لأرى قرية منسية من الزمن الغابر حافظت على أصولها العثمانية (جومالي كزك) القرية المليئة بالألوان الزاهية والتي تتحسس المحبة بين أزقتها الحانية.


أتابع مسيري والدهشة تملئني مخترقاً جوف مدينة عريقة بين أحضانها رفات السلاطين الخمس الأوائل.. عثمان غازي المؤسس وأورهان المجدد الموسع و الهدى وينديغار مراد شهيد بوسنة السعيد وبيازيد الصاعقة الشديد ومحمد شلبي العنيد ومراد الثاني والد الفاتح الصنديد.. أمضي إلى التربة الخضراء وجامعها لأسلم على السلطان محمد الأول الذي أعاد الدولة العلية بعد فترة انقطاع ملمّة عصية .. امضي الى الجامع الأعلى ذو العشرين قبة وأسأل عن بانيه بايزيد الأسير ونهايته الحزينة واتفقد خطيبه شيخ الاسلام الأمير سلطان في مقامه الشريف.


جامع بورصة الكبير (الأولوجامع) الذي غدى العلوُّ سمته عبر الزمن اسأل جدرانه لعلني أجد من يحدثني عن عمال بنوها  هل كان بينهم كراكوز الحداد وحاجي عواز الطيان  يا ترى هل كان لهم من ذنب ليعدما أم أن شخوصهم التي أصبحت أشهر مسرحية عثمانية أعادت لهم الاعتبار.


صديقي الصدوق  ما زلت كما تعرفني على العهد، وانا الغارق في عبق الماضي الاثير، الهائم في أروقة التاريخ الباحث عن كل عبرة وفائدة، دعني أحدثك عن تجوالي في خانات بورصة و أسواقها المسقوفة العتيقة المنمقة العامرة بكل ما لذ وطاب من حلوى الحلقوم وحلوى الكستناء والمكسرات ومأكولات البيده تاحينلي والجانتيك و الإسكندر كباب.


دعني أحدثك عن  رحلة استسثنائية لا تُفوَّت بالتلفريك الى جبل عظيم أخذ أيضا كجامع بورصة صفة العلو لتظل ذروته بيضاء تكسوها الثلوج، هذا الجبل الأخضر الرائع  اكتشفت أن أهل هذا المدينة يعتبرونه قبلتهم التي يصلون إليها.


أهبط من الجبل لأعُرّج على شجرة بورصة العظيمة (تشنار كايا) الخالدة .. الشجرة الرؤيا هي الحلم الذي رآه عثمان وفسره له عمه الشيخ (أدب عالي) لتصبح هذه الشجرة بعمرها الطويل رمزاً ل ٦٠٠ عام هي عمر هذه الدولة الراسخة الأقدام المتعددة الأطوار.. أنزل السفح لأشاهد تحفة فنية على شكل مقبرة هي التربة المرادية التي فيها قبور الأمراء و الأميرات من آل عثمان وهنا أحدث نفسي ما بال هذه المدينة لا يكاد تخلو كل بقعة فيها من أثر لعالم أو ولي أو سلطان..  تكاد مساجدها وقصورها وتربها أن لا تعد ولا تحصى.. صديقي الوفي أحدثك الآن وقد عبرت جميع معالم هذه المدينة العريقة أحدثك وأنا أمضي الى بوابتها الغربية وقد اشبعت نهمي من تاريخها وآثارها لأصل في نهاية المطاف إلى طريق مودانيا والبحر ينادي هل سأتابع المسير.

تعليق واحد

  1. وصف جميل جدا
    وقد تعودنا على قصصك الجميلة عن بورصة البهية
    وتاريخها العظيم
    وفقك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *