صمونجو بابا وفرنه العجيب

بقلم: الدكتور محمد أمين

يا ربي باركْ هذه المدينةَ ولا تحرمْ أهلَها من الخيرِ والبركةِ والرزقِ الوفيرِ أبدًا واجعلْ أرضَ هذه البلدةِ الطيبةِ سكنًا دائمًا للعلماءِ والأولياءِ ولا تحرمْها من بركتِهم


بهذهِ الدعواتِ المباركةِ والكلماتِ الطيبةِ يودّعُ الشيخُ الوليُّ (صمونجو بابا) مدينةَ بورصة التي أحبَّها وقضى فيها أيامَ لا تُنسى، يودعُها مضطرًّا رغمَ كلِّ الرجاءِ والتوسّلاتِ من أهلِ بورصة أن يبقى بينَهم ولا يحرمَهم من بركتِه.

يودعُهم مبتعدًا كعادةِ كلِّ وليٍّ عند انكشافِ سِرِّه في تلك اللحظةِ المهيبةِ كان واقفًا عند بوابةِ بورصة الشرقيةِ عند بداية طريقِ (اينغول اسكي شهير انقرة) هذه البقعةُ التي أصبحتْ اليومَ تسمى (دعاء تشنار) وغدتْ رمزًا وذكرًى لهذا الرجلِ ووداعِه لهذه المدينةِ، عندما وقفَ أهالي بورصة و علماؤها وعلى رأسِهم العالمُ الجليلُ (أمير سلطان) يرجونَ الوليَّ حامد أقصرايلي البقاءَ بينهم وهم الذين لقّبوه ب (صمونجو بابا) بعد أن اعتادوا مذاقَ خبزِ الصمّون الذي كان يصنعُه لهم.

كانوا يأكلون خبزَه اللذيذَ ويجدون فيه مذاقًا خاصًا لم يعرفوا سبَبَه حتى البناؤون الذين شيّدوا المسجدَ الكبيرَ (الأولو جامع) ذاقوا صمونه وشعروا ببركتِه، حتى دفعَ الفضولُ ذاتَ يومٍ أحدَ القائمينَ على بناءِ الجامعِ لأن يتبعَ هذا الخبّازَ ليعرفَ سرَّه وهو الذي يأتي كلَّ يومٍ ويوزعُ عليهم خبزًا لذيذًا يشعرُهم بالحيويةِ والنشاطِ عندما يأكلونه، تبعَهُ حتى وصلَ إلى فرنِه الذي أنشأه عند سفحِ الجبلِ ليجدَ ما يبهرُ الأبصارَ ويثيرُ العجبَ، يحدّثُ نفسَه (هذا الرجلُ غيرُ عاديٍّ، إنه ليسَ مجردَ خبازٍ، إنه وليٌّ صاحبُ كرامةٍ يا إلهي ما هذا الخبزُ الذي يصنعُه، يبدو أنه يعجنُه بالعشقِ الإلهيِّ ويخبِزُه بوهجِ الإيمانِ المتغلغلِ في أعماقِ روحِهِ الطيبة)، يلتفتُ صمونجو بابا لينتبهَ أن هذا الرجلَ كان يتبعُه ويعرفَ أنه كشفَ سرَّه، سرَّ كرامتِه، فيطلبُ منه راجيًا أن لايفصحَ لأحدٍ عنه وينصرفُ الرجلُ مذهولًا من هولِ ما رأى متعهدًا بعدمِ البوح.


وتمضي الأيامُ وينتهي البناؤون من إنشاءِ جامعِ بورصة الأعلى الكبيرِ ويأتي السلطانُ بايزيد ليعلنَ افتتاحَه يومَ الجمعةِ فيطلبُ من شيخِ بورصة وعلّامتِها الشيخ (أمير سلطان) أن ينهضَ لأداءِ خطبةِ الجمعةِ والصلاةِ في هذا اليومِ المشهودِ لكنه يتلكأُ قليلًا ويهمسُ في أذنِ السلطانِ أن في المسجدِ رجلٌ فاضلٌ ووليٌّ قطبٌ هو أحقُّ مني بالخطابةِ و الإمامةِ في هذا المسجدِ ، فيتفاجأُ السلطانُ من هذا الكلامِ ويطلبُ من الشيخِ أمير سلطان أن يفصحَ، فيحكي له قصةَ صمونجو بابا وكرامتِه وهو الذي علمَ بها من ذلك الرجلِ الذي تبعَ صمونجو بابا إلى فرنِه في ذاك اليومِ.

فينادي السلطانُ على الناسِ في الجامعِ فيلخرجْ من بينكم الرجلُ المدعوُّ صمونجو بابا ليؤديَ خطبةَ الجمعةِ والصلاةِ فلا يردُّ أحدٌ ثم ينادي مرةً أخرى فلا يخرج أحدٌ ثم ينادي مرةً ثالثةً وفجأةً يبرزُ صمونجو بابا أمامَ إصرارِ السلطانِ ليجدَ نفسَه مضطرًّا للخروجِ للخطبةِ، يصعدُ المنبرَ خاطبًا وقد أدركَ أن صعودَهُ هذا هو الأولُ والأخيرُ في هذا الجامعِ وأن هذه اللحظاتِ ستكونُ الأخيرةَ بالنسبةِ له في هذه المدينةِ .


يبدأ الخطبةَ بتلاوة سورةِ الفاتحةِ ثم يشرعُ في تفسيرِها تفسيرًا أولًا ثم تفسيرًا ثانيًا ثم تفسيرًا ثالثًا ورابعًا وخامسًا وسادسًا وسابعًا والناسُ في ذهولٍ، أغلبُهم لم يفهمْ ويستوعبْ إلا التفسيرَ الأولَ والثاني على أقصى حدٍّ أما العلماءُ الحاضرون ربما فهموا التفسيرَ الثالثَ والرابعَ أما الخامس والسادس والسابع فكانَ ذا مستوًى روحانيٍّ عالٍ لم يفهمْه أحد، ثم يؤدي الصلاةَ ويخرجُ صمونجو بابا من المسجدِ وقد علِمَ موقنًا أنه في اللحظةِ التي قررَ فيها الموافقةَ على خطبةِ الجمعةِ هي ذاتُها اللحظةُ التي سيغادرُ فيها المدينةَ التي أحبَّها وأحبَّ أهلَها.

الصورة من فيلم صمونجو بابا


يخرجُ محزونًا بعد انكشافِ السرِّ ومعرفةِ كراماتِه وهذا دأبُ الأولياءِ، يمضي راحلًا عن بورصة ويتجه شرقًا إلى مسقطِ رأسِه بلدةِ اقصراي لكنَّ أهالي بورصة وعلماءَها لن يتركوهُ، فتخرجُ المدينةُ عن بكرةِ أبيها علّها تثنيه عن عزمِه فيقفُ عند شجرةِ الدعاء (دعاء تشناري) ليتلفّظَ بكلماتٍ من القلبِ هي دعوتُه الشهيرةُ لبورصة ويمضي لتصبحَ هذه الدعوةُ علامةً فارقةً ونقطةً بارزةً في تاريخِ هذه المدينةِ تجعلُ أهلَها وكلَّ من يسكنُ فيها يشعرُ بالأمانِ والطمأنينةِ والبركةِ طالما هو يعيشُ فيها، ويفقدُ هذا الإحساسَ عندما يغادرُها حتى يعودَ إليها كما السمكة عندما تخرجُ من الماءِ تبقى في كدرٍ وضنكٍ حتى تعودَ إليه .. وهذا ما يسمّيه أهالي بورصة (سر دعوة صمونجو بابا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *